بعد مرحلة التجاوب الظاهري مع مطالب المتظاهرين المصريين- وهي لم تتجاوز إعلان الرئيس مبارك عدم التجديد وعدم التوريث ثم "فتح حوار" مع القوى السياسية- هل دخل النظام المصري في مرحلة متقدّمة من حرب إستنزاف الثورة المصرية عبر التهديد باستخدام الجيش، كما فعل وزير الخارجية أبو الغيط، أو بـ"الإنقلاب" كما فعل نائب الرئيس عُمَر سليمان؟
وزير الخارجية أحمد أبو الغيط قال: "سنجد القوات المسلحة مضطرة للدفاع عن الدستور والامن القومي المصري ... ونجد انفسنا في وضع غاية (في) الخطورة."
ونائب الرئيس عمر سليمان قال كلاماً تهديدياً واضحاً: ""الطريق الثاني البديل للحوار هو حدوث انقلاب، ونحن نريد أن نتجنب الوصول إلى هذا الانقلاب الذي يعني خطوات غير محسوبة ومتعجلة وبها المزيد من اللاعقلانية". وردّاً على دعوات "العصيان المدني" قال سليمان: "هذه الدعوة خطيرة جدا على المجتمع، ونحن لا نتحمل ذلك على الإطلاق ولا نريد أن نتعامل مع المجتمع المصري بأدوات الشرطة"!
هل تستند تهديدات المسؤولين المصريين إلى الإرتباك الحاصل في المواقف الأميركية (تصلّب الرئيس أوباما مقابل "التساهل" النسبي لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تجاه النظام المصري) الذي قد يكون أحد أسبابه الضغوط التي تمارسها بلدان عربية مؤثرة أبرزها السعودية ودولة الإمارات والأردن- وهذا عدا الموقف الليبي المؤيد كلياً لـ"الفقير مبارك"؟
وهل صحيح أن السعودية والإمارات عرضت تقديم دعم مالي للجيش المصري يحلّ محلّ الدعم العسكري الأميركي لهذا الجيش(1،5 مليار دولار سنويا)؟
وهذا، عدا الموقف الإسرائيلي "الغبي" الذي يدعم نظام مبارك؟
أي، هل نشهد نشوء "حلف غير مقدّس"، عربي بالدرجة الأولى، ثم إسرائيلي، وجزئياً أميركي، ضد الثورة المصرية؟ أي ضد "الثورة الديمقراطية العربية"؟
قد يكون مفهوماً أن تدافع أنظمة المنطقة عن أنفسها، وعن رفضها للإصلاح (رغم المحاولات الخجولة للملك السعودي التي قد لا يبقى منها الكثير بعد رحيله!)! ولكن، هل تعتقد هذه الأنظمة أنه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟
لكن، ما هي مصلحة الولايات المتحدة في الحفاظ على وضعٍ سينفجر من الداخل، عاجلاً وليس آجلاً، بصورة عنيفة ودموية، إذا وُضَعَت العراقيل لمدة طويلة أمام تطوّر ديمقراطي سلمي؟ وهل كانت الولايات المتحدة نفسها "تحلم" بانتفاضة أشعل شرارتها "مدير مبيعات شركة غوغيل" (نتصوّر بسهولة أن "أمن الدولة" المصري ركّز في تحقيقاته معه على اكتشاف "مؤامرة أميركية" بواسطة "الفايس بوك"..) وليس أحد "ملات" الطالبان أو "ملا" إيراني؟ وهل تشكّ الولايات المتحدة في أن نجاح الثورة المصرية الديمقراطية سيطيح بحليف إيران الأول في المنطقة العربية، أي بنظام بشّار الأسد؟ وبأدوات إيران في المنطقة العربية؟ وبنظام معمّر القذّافي؟
أليس الهدف الرئيسي المعلن للولايات المتحدة في المنطقة حالياً هو "عزل" النظام الإيراني وحصاره؟
وحكومة إسرائيل، التي تسمح لنفسها بإعطاء دروس حول ما تعتبره نظاماً مقبولاً في مصر، هل لاحظت أن أحداً لم يتدخّل في حقّ شعبها في اختيار ممثليه؟ وأن الإدارة الأميركية نفسها (ولا نقول العرب) كانت تفضّل مسؤولاً غير السيد نتنياهو كشريك في عملية السلام؟
ثم، هل كانت إسرائيل هي الأخرى، "تحلم" بثورة مصرية ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يمثّل فيها "الإسلاميون" أقلية، ولا يردّد القائمون بها شعاراً واحداً ضد "اليهود"، ولا تشير أي من شعاراتها إلى رفض "معاهدة السلام"؟ حكومة إسرائيل (التي يؤهلها غباؤها لمقعد في جامعة الدول العربية..)، هل تعتقد فعلاً أن شعب مصر سيضحّي بديمقراطيته الجديدة لخوضٍ حرب مع إسرائيل في وقت يفاوض الفلسطينيون أنفسهم لبناء دولتهم المستقلة؟
أم أن الإسرائيليين، ربما، يدركون أن سقوط نظام مبارك سيستتبع سقوط إستراتيجيتهم في "الجبهة الشرقية"، التي تقوم على بقاء نظام الأسد في سوريا؟
وقبل ذلك كله، فهل ينتبه "المعنيون" من عرب وأميركيين (وإسرائيليين) إلى أن لعبة "إستنزاف" الثورة المصرية، هي لعبة خطرة جداً؟
لقد سقط حتى الآن 300 قتيل على يد قوى الأمن "والبلطجية"؟ ويسقط قتلى جدد كل يوم. فما هو عدد القتلى الذي سيحوّل قسماً من المحتجّين إلى حَمَلة سلاح؟ وما هو عدد القتلى، أو مقدار الخراب، الذي سيُخرِج قسماً من حَمَلة السلاح الأصليين، أي قسماً من الجيش المصري، عن أوامر قيادته؟
وكما أشرنا سابقاً على هذا الموقع، هل يضمن أحد، في النظام المصري وخارجه، أن الجيش المصري لا يضمّ تنظيمات متطرّفة يمكن أن تنقضَ على السلطة، ليس لدعم الثورة الديمقراطية، بل لإدخال مصر في مغامرات داخلية وخارجية قد تحوّلها إلى باكستان ثانية؟
ولو حدث مثل هذا التطوّر المخيف، فإن قيادات النظام المصري المراهنة على "استنزاف" الثورة ستكون، على الأرجح، أولى ضحاياه!
مصلحة مصر، ومصلحة الشعوب العربية (وحتى حكّام العرب) هي في انتقال سلمي إلى الديمقراطية. ويخطئ السيد عمر سليمان حينما يزعم أن مصر ليست جاهزة للديمقراطية! المنطقة كلها باتت "جاهزة" بعد 20 عاماً من سقوط أنظمة الإستبداد في أوروبا الشرقية. أنظمة العرب ماتت، مثل "ديكتاتور" غارسيا ماركيز الذي اكتشف شعبه أنه توفّي منذ سنوات داخل قصره من غير أن يعرف أحد بموته! ولعلّه يجدر بحكام مصر، وبعض حكام العرب، أن يتّعظوا من "الإنتقال السلمي" للسلطة الذي حصل في أوروبا الشرقية، ووفّر على شعوبها (بل وعلى حكامها السابقين) الكثير من الخراب والدماء!
ما حدث في تونس، وما يحدث في مصر الآن، يتّصل، بمبادئه ومطالبه، بثورة 1789 الفرنسية ("حرية، إخاء، مساواة) وقبلها "إعلان الإستقلال" الأميركي في 1776 (ومبدأ "لا ضرائب بدون تمثيل") وصولاً إلى شرعة حقوق الإنسان الدولية! ليس ثورة "شيوعية"، وليس "ثورة إسلامية"! وليس حتى "إنقلاباً قومياً عربياً"!
ليس صدفةّ أن الصين "حجبت" أخبار الثورة المصرية عن الإنترنيت الصيني. فما يحدث في مصر هو نسخة عربية، مختلفة نوعاً ما، لـ"شرعة 2008" التي أصدرها 300 مثقف صيني! (راجع: "شرعة 08": 300 مثقف صيني يطالبون بحكم ديمقراطي ودستوري وبإنهاء هيمنة الحزب الشيوعي).
الثورة المصرية، وثورة تونس قبلها، هي من نوع "الثورات البرجوازية"، أي أنها ثورة "ليبرالية" محورها "الإنسان" (وليس "الإله"، وليس "القومية العربية" أيضاً) وكرامته، وحقوقه.
وهي أيضاً "إستئناف" لتاريخ مصر الليبرالية في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، واستئناف لحياتها السياسية المدنية قبل إنقلاب العسكر في العام 1952.
وحتى لو أعلن "حزب الله" تأييده لها، فنموذجها (كما أعلن الرئيس الإيراني "المنتخب" مير حسين موسوي) هو إنتفاضة طهران في 2009، وانتفاضة الإستقلال اللبنانية في 2005! ولو كره الكارهون!
وكلمة أخيرة:
بعض المثقفين الديمقراطيين العرب "يخافون" الثورة المصرية (و"خافوا من ثورة تونس قبلها) لأنهم كانوا يعتقدون أن نظام بن علي ونظام مبارك يشكلان "سدّاً" في وجه الإسلاميين! لن ندخل مع هؤلاء المثقفين الخائفين في جدال "نظري"! الدليل على خطأ موقفهم هو أن "السد" قد انهار. لقد سقط "السد" في الواقع، وليس في النظريات! والذين أسقطوه هم "أبناء" ثورة ليبرالية وليسوا دعاةً "إلهيين"!
ماذا يريد المثقف الديمقراطي العربي أكثر من ذلك؟